هناك قصة شهيرة عن معلم فى فنون الدفاع عن النفس، وهى فنون — كما هو معروف — تعتمد بشكل عام على التدريب على السيطرة على قوة الفكر لتركيز الطاقة بصورة معينة فى أعضاء الجسم، وتوجيهها نحو هدف ما. بالتمكن من تلك الفنون يستطيع الممارس لها رد الأذى بقوة فائقة، وبتحكم كامل فى النفس حتى لا يُسىء استعمال قوته. ومن هنا فهى أيضا يصاحبها تدريب روحى وأخلاقى عال. وطبعا صارت هذه الفنون تمارس كنوع من الرياضة مثل التايكوندو والكاراتيه والكونج فو وغيرها، وهى تعتمد على التناغم بين العقل والنفس والجسد.
فى قصتنا اليوم جاء شاب إلى هذا المعلم وسأله: إننى أرغب بقوة فى تعلم فنون الدفاع عن النفس، فكم من الوقت سأحتاج لأكون متمكنا منها تماما؟ رد المعلم قائلا: «عشر سنوات». فتساءل الشاب فى لهفة واضحة وقد بدا عليه أنه استكثر المدة: «لكننى أريد أن أتعلم فى وقت أقل من هذا بكثير، سأبذل جهدا أكبر، وسأتدرب بانتظام وبصدق. فكم من الوقت سأستغرق فى هذه الحالة؟». فكر المعلم لبرهة وقال له:«عشرين عاما».
نظر الشاب إلى المعلم فى دهشة وصدمة متسائلا: كيف يكون ذلك؟ أبذل جهدا إضافيا فى التدريب وأستغرق ضعف الوقت لأصل إلى التمكن من ممارسة هذا الفن؟ أرجوك أن تشرح لى ماذا تعنى؟ قال له المعلم: إن التمكن من هذا الفن يعتبر بمثابة طريق ما يؤدى السير فيه إلى «محطة وصول». إذا سرت فى هذا الطريق وقد انشغلت عين من عينيك بترقب «محطة الوصول»، ستتبقى لك عين واحدة تسترشد بها فى رؤية الطريق. تحير الشاب من جديد وسأل المعلم وهو متردد: «هل يعنى هذا أن أسير فى الطريق، وأنا لا أعرف الموضع الذى سأصل إليه؟». قال المعلم:«لا يا ولدى إن تحديد الهدف، ووضع خطة الوصول إليه إنما هى خطوة أولية وأساسية، بها تتفجر كل قواك الداخلية وقدراتك ومواهبك لتبدأ الرحلة. وحين تقابلك العقبات التى تعرضك لليأس من الوصول، فتذكر الهدف ينعش فيك الطاقة على المواصلة من جديد، ويساعدك على تحويل هذه العقبات إلى خبرة، وفرصة للتعلم. أما أثناء المسير فى الطريق، فيجب أن تركز كل جهودك فى إتقان ما تفعل، ويكون ذلك هو كل همك، فهذا هو الذى سيوصلك لهدفك فى وقت أقل».
تحديد الهدف.. أولا
سأوضح أولا الفرق بين عبارة «تحديد الهدف»، وبين «عملية التمنى» التى تراود أيا منا بشكل عفوى متكرر، والتى تصل فى بعض الأحيان إلى ما يسمى «أحلام اليقظة». فالطفل الصغير يقول مثلا: «أريد أن أكون طبيبا.. ضابطا» والطفلة تقول: «أريد أن أكون مدرسة.. أو مذيعة». هذه بذرة صغيرة جدا ربما تعبر عن استعدادات هذا الطفل وهذه الطفلة، وربما تكون مجرد التأثر بحبه أو حبها لشخصية جذبتها. أما حين يكبر الأطفال، وتظل عبارة «أريد أن أكون كذا» مجرد تكرار ذهنى، ورغبة عشوائية، فهى لا تسمى «تحديد الهدف». بهذا التعريف اكتشفت أن الكثيرين منا، ينطبق عليهم معنى «التمنى»، وقليلون هم من «يحددون أهدافهم». فمعظمنا يسيرون فى الحياة وكأنها مجرد خطوات نمطية ميكانيكية. الطفل يدخل من مرحلة لمرحلة دراسية، وتكون الأولوية لإحراز الدرجات التى تجعله يدخل الجامعة، ويتخرج، ويبحث عن وظيفة تدر عليه أكبر دخل ممكن.. وهكذا تسير الحياة فى خريطة «شكلية»، وهو لا يعرف ماذا يريد منها حقا. ووسط هذا الخضم تراوده من حين لآخر فكرة:«كنت أتمنى أن أكون كذا»، وهو لا يجد أى علاقة بين ما يفعله وما يتمناه. ومن هنا يعانى الانقسام ويفتقر للشعور بالسعادة والتحقق. «تحديد الهدف» كما وضحه المعلم عملية واعية وأساسية، تتواصل فيها مع نفسك تسألها عما تريد من الحياة، وربما عما تريد تحقيقه فى مرحلة ما من العمر، أو فترة زمنية معينة. من هنا فقول المعلم أن تحديد الهدف يؤدى إلى «تفجر كل قواك الداخلية وقدراتك ومواهبك لتبدأ الرحلة» تعبير دقيق، مفاده أن «تحديد الهدف» يبدأ أولا من قدرتك للاستماع إلى داخلك وليس من منطلق «صورة خارجية نمطية» يصنعها أى إنسان آخر. معنى هذا أنه حتى تكون سعيدا ومتحققا يجب أن تبذل جهدا فى اكتشاف نفسك وتلاحظ مواطن قوتك أيا كانت: ذهنية، فنية، رياضية، وهذه ليست مجرد عملية ذهنية بحتة، ولكن هى أيضا حالة وجدانية، تجعلك مؤمنا بقدراتك، وبالهدف الذى حددته، وتبث فيك السعادة الكاملة وأنت تقول إن تحقيق هذا الهدف سيكون عملك الأساسى فى الحياة عموما، أو فى فترة ما. حين ينسجم المستويان داخلك: التعرف على مواطن قوتك، مع حب قوى داخلى للتعبير عنها فى عمل تحب أن تقوم به، تكون قد «حددت هدفك». وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهى «وضع الخطة».
«وضع الخطة» هو المرحلة التى يتحول فيها «المشروع» أى «الهدف» من «الرسم النظرى الخلاق»، والذى يشبه إلى حد كبير «الرسم الهندسي» المتقن، إلى خطوات على أرض الواقع، أى بناء المبنى الذى هو «هدفك». أثناء هذه العملية - عملية البناء - أنت معرض لأن تجد غياهب كثيرة، وتشتيتات تريد أن «تشوه» الخريطة، وبالتالى تضيّع الهدف. ومن هذه مثلا ضغط الآخرين أو ضغط المجتمع عليك لتدخل فى النمط الذى يريدون لك قهريا، أو شك فى قدراتك يراودك، أو صدمة نفسية بسبب ظروف من أى نوع.. هنا يصبح «تذكر الهدف» من جديد، تفجيرا لإمكانياتك من جديد، وإيقاظا لإيمانك بنفسك وبهدفك، وبالتالى الحماس له، فتعود للخريطة الأصلية، ويستمر البناء خطوة وراء خطوة، بوضوح رؤية وعزيمة.
ما الـذى يـعـوق تحـقيق أهدافنا على أرض الواقع؟
قد نكون مثل الشاب الذى ذهب بلهفة إلى المعلم لأنه يريد بصدق أن يتعلم «فنون الدفاع عن النفس». أى أنه يدرك تماما «محطة الوصول» التى يريدها وهى «هدفه». لماذا إذاً يقول له المعلم: لو»انشغلت عين من عينيك بترقب «محطة الوصول»، فستتبقى لك عين واحدة تسترشد بها فى رؤية الطريق»؟
المعلم هنا يلمس نقطة فى غاية الدقة، وهى «التركيز» فى العمل نفسه، أى إعطاء كل الجهد وكل المعرفة وكل الحب والحماس لما تعمله فى اللحظة ليكون على أفضل ما يكون. وهنا يتم الإنجاز بسرعة فعلا.
أما إذا اقتطعت من طاقتك وجهدك للتفكير أثناء العمل فيما ستكون عليه «محطة الوصول»، فسيكون إنجازك فى لحظة العمل بنصف طاقتك وجهدك وحبك، وبالتالى سيتأخر الإنجاز.
على أرض الواقع مثلا نفترض أن طالبا «حدد هدفه» فى لحظة ما أن ينتهى من استذكار مادة معينة، ثم بدأ فى القراءة. هو معرض أن يفقد تركيزه لو بدأ يفكر فى أنه يريد أن ينتهى منها سريعا ليفعل كذا وكذا، وهذا سيجعله يستغرق وقتا أطول.
أما إذا ركز تفكيره فى الاستيعاب، فسينتهى فعلا بسرعة. مثال آخر: قد تخطر له أثناء القراءة فكرة عن مشكلة ما فى حياته، يتداعى معها الحزن، ويأخذه الحزن إلى فتور الحماس تجاه ما يفعل، فإما ينجزه دون إتقان، أو يؤجله، أو يتركه تماما ويبحث عن شىء آخر، وينسى الهدف. جميع علماء النفس الحديث يقولون إن سبب عدم «النجاح» بمعنى عدم «تحقيق الأهداف» إنما هو بسبب فقدان «التركيز»، أى الانتقال عشوائيا من الاهتمام بشىء إلى آخر إلى غيره، بدون وعى، فكأنما ترمى بهم الرياح حيثما تذهب.
أما وضوح الهدف فيحدد إتجاها واضحا للسير، والإيمان بنفسك وبالهدف يعطيك القوة والحب لما تفعل، والإرادة تساعدك على تخطى العقبات، وتجنب التشتت. وهذا هو الجزء الخاص بك للنجاح فى أى شيء، إذا قمت به بإتقان يتسابق كل ما فى الكون ليساعدك على تحقيقه.
تدريب: راجع أسلوب حياتك وفقا للمنهج المذكور أعلاه. هل يساعدك فى هذه الرحلة نحو تحقيق هدفك؟